البداية
English Homepage
مجلس الآباء
دليل المواقع
أنشطة الجماعات
للمدرسين فقط
استفسار عن...
المفكرة المدرسية
لوائح و قوانين
خارطة الموقع
مساعدة
عن الموقع
أخبار الموقع

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الشباب التائه

رفع الضابط رأسه ليرى المجرم الواقف أمامه. كان شاباً في السابعة عشر من عمره. نحيف الجسم حاد الملامح , قد صبغته الشمس باللون الداكن تاركة فيه بقعاً سمراء واضحة على وجهه ويد يه , وكان ثوبه معفراً بالتراب , مائلاً إلى اللون الأصفر الممزوج ببقع الطين المتناثرة من أسفله ، كان يقف و نظراته الحادة فيها كل معاني العناد والتحدي و اللامبالاة .. صامداً و كأنه سيد الموقف لا يبالي بالقيود التي أحاطت بيديه.

- ما اسمك ؟َ

- ..............

- قلت ما اسمك ؟ ألا تسمع ؟

- اسمي علي .

- ابن من ؟

- ..............

- هل ستجيب أم أعلمك كيف الإجابة ؟

- علي فقط ..لست ابن أحد .

- وكيف ذلك ؟ أليس لك أب و أم ؟أم خرجت هكذا للدنيا ؟

- لا ليس لي أحد .

- حسناً .... قل لي ،- ماذا كانت تفعل عندك هذه المسروقات التي ضبطناها في حقيبتك .

- لقد قلتها ... مسروقات ،- يعني سرقتها .

- ولماذا سرقتها؟

- (بسخرية ): و لماذا يسرق الناس ؛ سرقتها لكي أبيعها و أستفيد منها ،- و الباقي أتسلى به و أرميه .

- علي .. اسمع جيداً .. لا أحب هذا العناد في الحديث ،- موقفك صعب جداً .. التقرير الذي أمامي يوضح ضبط ساعات ثمينة معك،- ونقوداً بالآلاف ،- وكمية من المخدرات .. و لك سوابق في كسر المحال التجارية،- ومحاولة سرقة منزل وضرب صاحبه ،- أتدري أن معنى هذا كله ؛ انه ضياع مستقبلك ؟.

- أعلم .

- إذن ساعدني لكي أخفف عنك العقوبة،- قل لي: هل كان معك أحد أثناء سرقاتك؟ هل دفعك شخص ما إلى هذه الأعمال؟ وهذه المخدرات؟ كيف وصـــلت إلـــيك ؟ إن أخبرتني عن معاونيك خففت عنك الحكم ،- واستطعت إنقاذك .

- لم يكن معي أحد ،- فعلت كل ذلك وحدي ،- وبمحض إرادتي وتصميمي ،- ولو خرجت من هنا،- لفعلت نفس الشيء ،- بل أكثر. تنهد الضابط وقال : أنت مصمم إذن على انهيار حياتك وضياعها.. يا علي أنت شاب والحياة أمامك،- حرام عليك هذا العناد.أخبرني أين هم أهلك؟أريد التحدث معهم.

- قلت لك ليس لي أهل. ولم تفلح محاولات الضابط لاستخراج إجابات مقنعة من علي،- فما كان أمامه سوى ،- إرساله إلى الحبس المؤقت ؛ لينظر في قضيته بعد ذلك .. كان متعجبا ً من هذا العناد المهلك،- ومن هذا التحدي الصلب .. حزيناَ على هذا الشباب الذي يذوب شيئاً فشيئاً في عالم التيه والانحلال.

جلس علي يتأمل جدران الزنزانة المظلمة ، وحوله تقبع أجساد قد طغى عليها النوم ، فرحلت في سبات عميق ، تأملها وهي تنكمش عــلى نفسهــــا متناثرة هنا وهناك، وظل ينظر إلى هذا الظلام الذي يلفه ، ويستنشق تلك الرطوبــة الخــــانقة المخلوطة برائحة الرجال المتصاعدة إلى أنفه.. كان الجو صامتاً هادئاً ، يقطعه بين الفينة والأخرى صوت شخـير يتصاعد من أحدهم ، أو صوت يتقـــلب ، أو صـوت كلمات و همهمات من شخص يحلم ..أسند رأسه إلى الجدار ، و أخذ ينظر إلى اللاشيء .. في داخله طوفان عجيب من الكره لهذه الدنيا و عدم الرغبة في الحياة.

في قلبه لوعة على هذا الزمن الذي رماه في هذا المكان .. ترى ما هو الصواب ؟ وما هو الخطأ ؟ كل ما يدركه أن الناس تلومه وترمقه بنظرات الغضب على أمور يفعلها ولكن لماذا ذلك الغضب؟ لماذا السرقة حرام؟ وشم الغراء منكر؟ وضرب الناس جريمة؟ ثم لماذا هو يفعل ذلك؟ كان ذلك سؤالاً يسأله لنفسه لأول مرة.. لماذا يقدم على كل ذلك ؟ ووجد الإجابة.. نعم ، لعلها ردة فعل من واقعه التعيس.. واقع حياته الذي تشتت بين أب وأم منفصلين ، رحل كل منهما إلى بيت وزوج، وأضحى هو تلك الصلة المنبوذة بــيـنـهـما ..

وكأنه جرثومة بل نبتة خرجت في غـيـر أرضها يراد لها أن تموت .

كان لا يدري من هو ؟ وعلى أي أرض يعيش ؟ وإلى أي أهل ينتمي ؟ .. يحس نفسه وحيداً ممزقاً من كل صلة أو ارتباط عائلي .. فلا أب يرحم و لا أم تمنح الحنان ولا أهل يؤانسونه و يواسونه .. نبذه الجميع ، حتى جيرانه حينما علموا بسرقاته ؛ أطلقوا عليه في الحي اسم المجرم .. تجنبه الصغار والكبار، وكان كل من يراه يقابله بنظرات الغضب ويرمي عليه ببعض كلمات جافه ويتعوذ من شروره .. وهو الضائع في حياته كان يقبل على أمه، يتنازعه شوق جارف أن يرتمي في أحضانها كي يبكي قائلاً : أنقذيني يا أماه من جحيم الحياة، خذيني إلى أمانك ، إلى حضنك الدافئ ، أنقذيني من حطام الانحراف ورفقة السوء ، أروي نفسي العطشى من حنانك، فقد يبست فيها جميع العروق .. ولكن أمه لم تكن تقوى حتى على فتح الباب، كانت تحادثه بكلمات مختصرة خوفاً من زوجها وحفاظاً على بيتها وأطفالها، فيسير تائه الخطوات منكسر الفؤاد لا يدري ما وجهته ولا انتماؤه ، كثيراً ما كان يتربص لإخوانه من أمه، يترقبهم حين يخرجون فيمسكهم ويضربهم دونما سبب ، فقط لأنه يحس أنهم سرقوا منه حنان أمه ، إنهم ينعمون بدفئها، بينما هو محروم من هذا النعيم فيهرولون إلى أبيهم يشكونه، وأصبحت حياته كلها من هرب إلى هرب، ولولا الخوف من لوم الناس لتركه أبوه في العراء ، ولكنه تصدق عليه بغرفة حقيرة في آخر المنزل وبعشرة دراهم كل شهر ، وكان هذا هو الشيء الذي يربطه بأبيه فقط ، ولأشد ما كان يكره زوجة أبيه ، تلك الشريرة التي تستقبله وتودعه بكلمات جارحة: يا وجه الشؤم يا بذرة السوء .. كانت تخوف أولادها منه، وكأنه وحش كاسر أو حيوان أجرب، وكانت تهدده بالطرد عند أول هفوة .. لكم تمنى أن يقتلها ويدفنها حيث لا يدري به أحد.. فقد كان يعتقد أنها السبب في شقائه فلولاها لعاد أبوه إلى أمه والتأم الشمل. وامتلأت حياته بخيوط اليتم والضياع والتقطه الشارع بكل ما فيه من فساد وضياع وعصابات الليل، وأصبح كائناً ثائراً على مجتمعه لا مبالياً ، جريئاً في السرقة والضرب والمخدرات .. كان يقد م على ذلك إما لحاجته ، أو لينسى ،أو لينتقم من حياته ومجتمعه..

طلبه الضابط في الصباح.. توجه إليه دون أن يأبه لما سيحدث .. فقد تساوى عنده كل شيء .. السجن والحرية ، الظلام والنور، الموت والحياة .. كان يسخر ممن ينادي بالعدالة وهو أول المظلومين .

دخل علي غرفة الضابط فوجد أمامه شخصين يعرفهما جيداً، تأملهما، حدق بهما جلياً .. أرسل لهما نظرة بها كل معاني الغضب واللوم والمعاناة ، وكان في نفسه مزيجٌ عجيب ، بل تناقض مؤلم فقد كان يعرف أنهما سبب شقائه، مع أنهما أقرب حبيبين له .. استدعاهما الضابط بعد أن تحرى عن علي وعرف أهله .

 

- تقدم يا علي.. هل هذين أبويك؟

- ___________________

- هيا أجب يا علي .. هل هذان أبواك؟

- قلت لك سابقاً ليس لي أحد.

- ولكني أعلم أنهما أبواك.

- _______________

 

أقبلت عليه أمه في لهفة، ضمته وهو ساكن صامد وكأنه عمود من أسمنت.

- ما بك يا علي ؟ يا حبيبي تكلم لماذا تفعل ذلك ؟

- تكلم يا علي أنا أبوك. لماذا تفعل هذا بنفسك؟ بماذا قصّرت معك؟

 

كان علي ينظر أمامه لا يلتفت إلى أحد، وكأنه لا يسمع ولا يرى .. ولكن الدموع التي تحدرت على وجنتيه كانت تعبر عن بركان الألم المخزون في صدره ، كانت تحكي الإجابات الحامية التي لم ينطق بها لسانه .. عن صراخه المكبوت منذ سنين.. عن عذابه وضياعه.. التفت إلى الضابط وقال: أرجوك أعدني إلى الزنزانة ، لا أريد أن أبقى هنا.

وذهب علي ، وحكم عليه بعد ذلك أن يبقى في مركز الأحداث عدة سنوات، ورحل إلى عالم جديد وبيئة جديدة، وبعد عدة أشهر هرب علي من المركز، وغاص مرة أخرى في مستنقع السوء، وذاب في ذلك المصير المظلم ، وذلك المستقبل المجهول.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 
 

للأعلى