ومن
هذا التحدي
الصلب ..
حزيناَ على
هذا الشباب
الذي يذوب
شيئاً فشيئاً
في عالم التيه
والانحلال.
جلس علي
يتأمل جدران
الزنزانة
المظلمة ،
وحوله تقبع
أجساد قد طغى
عليها النوم ،
فرحلت في سبات
عميق ، تأملها
وهي تنكمش
عــلى
نفسهــــا
متناثرة هنا
وهناك، وظل
ينظر إلى هذا
الظلام الذي
يلفه ،
ويستنشق تلك
الرطوبــة
الخــــانقة
المخلوطة
برائحة
الرجال
المتصاعدة
إلى أنفه.. كان
الجو صامتاً
هادئاً ،
يقطعه بين
الفينة
والأخرى صوت
شخـير يتصاعد
من أحدهم ، أو
صوت يتقـــلب
، أو صـوت
كلمات و
همهمات من شخص
يحلم ..أسند
رأسه إلى
الجدار ، و أخذ
ينظر إلى
اللاشيء .. في
داخله طوفان
عجيب من الكره
لهذه الدنيا و
عدم الرغبة في
الحياة.
في قلبه
لوعة على هذا
الزمن الذي
رماه في هذا
المكان .. ترى
ما هو الصواب ؟
وما هو الخطأ ؟
كل ما يدركه أن
الناس تلومه
وترمقه
بنظرات الغضب
على أمور
يفعلها ولكن
لماذا ذلك
الغضب؟ لماذا
السرقة حرام؟
وشم الغراء
منكر؟ وضرب
الناس جريمة؟
ثم لماذا هو
يفعل ذلك؟ كان
ذلك سؤالاً
يسأله لنفسه
لأول مرة..
لماذا يقدم
على كل ذلك ؟
ووجد الإجابة..
نعم ، لعلها
ردة فعل من
واقعه التعيس..
واقع حياته
الذي تشتت بين
أب وأم
منفصلين ، رحل
كل منهما إلى
بيت وزوج،
وأضحى هو تلك
الصلة
المنبوذة
بــيـنـهـما ..
وكأنه
جرثومة بل
نبتة خرجت في
غـيـر أرضها
يراد لها أن
تموت .
كان لا
يدري من هو ؟
وعلى أي أرض
يعيش ؟ وإلى أي
أهل ينتمي ؟ ..
يحس نفسه
وحيداً
ممزقاً من كل
صلة أو ارتباط
عائلي .. فلا أب
يرحم و لا أم
تمنح الحنان
ولا أهل
يؤانسونه و
يواسونه ..
نبذه الجميع ،
حتى جيرانه
حينما علموا
بسرقاته ؛
أطلقوا عليه
في الحي اسم
المجرم ..
تجنبه الصغار
والكبار،
وكان كل من
يراه يقابله
بنظرات الغضب
ويرمي عليه
ببعض كلمات
جافه ويتعوذ
من شروره .. وهو
الضائع في
حياته كان
يقبل على أمه،
يتنازعه شوق
جارف أن يرتمي
في أحضانها كي
يبكي قائلاً :
أنقذيني يا
أماه من جحيم
الحياة،
خذيني إلى
أمانك ، إلى
حضنك الدافئ ،
أنقذيني من
حطام
الانحراف
ورفقة السوء ،
أروي نفسي
العطشى من
حنانك، فقد
يبست فيها
جميع العروق ..
ولكن أمه لم
تكن تقوى حتى
على فتح
الباب، كانت
تحادثه
بكلمات
مختصرة خوفاً
من زوجها
وحفاظاً على
بيتها
وأطفالها،
فيسير تائه
الخطوات
منكسر الفؤاد
لا يدري ما
وجهته ولا
انتماؤه ،
كثيراً ما كان
يتربص
لإخوانه من
أمه، يترقبهم
حين يخرجون
فيمسكهم
ويضربهم
دونما سبب ،
فقط لأنه يحس
أنهم سرقوا
منه حنان أمه ،
إنهم ينعمون
بدفئها،
بينما هو
محروم من هذا
النعيم
فيهرولون إلى
أبيهم
يشكونه،
وأصبحت حياته
كلها من هرب
إلى هرب،
ولولا الخوف
من لوم الناس
لتركه أبوه في
العراء ،
ولكنه تصدق
عليه بغرفة
حقيرة في آخر
المنزل
وبعشرة دراهم
كل شهر ، وكان
هذا هو الشيء
الذي يربطه
بأبيه فقط ،
ولأشد ما كان
يكره زوجة
أبيه ، تلك
الشريرة التي
تستقبله
وتودعه
بكلمات جارحة:
يا وجه الشؤم
يا بذرة السوء
.. كانت تخوف
أولادها منه،
وكأنه وحش
كاسر أو حيوان
أجرب، وكانت
تهدده بالطرد
عند أول هفوة ..
لكم تمنى أن
يقتلها
ويدفنها حيث
لا يدري به أحد..
فقد كان يعتقد
أنها السبب في
شقائه
فلولاها لعاد
أبوه إلى أمه
والتأم الشمل.
وامتلأت
حياته بخيوط
اليتم
والضياع
والتقطه
الشارع بكل ما
فيه من فساد
وضياع
وعصابات
الليل، وأصبح
كائناً
ثائراً على
مجتمعه لا
مبالياً ،
جريئاً في
السرقة
والضرب
والمخدرات ..
كان يقد م على
ذلك إما
لحاجته ، أو
لينسى ،أو
لينتقم من
حياته
ومجتمعه..
طلبه
الضابط في
الصباح.. توجه
إليه دون أن
يأبه لما
سيحدث .. فقد
تساوى عنده كل
شيء .. السجن
والحرية ،
الظلام
والنور،
الموت
والحياة .. كان
يسخر ممن
ينادي
بالعدالة وهو
أول
المظلومين .
دخل علي
غرفة الضابط
فوجد أمامه
شخصين
يعرفهما
جيداً،
تأملهما، حدق
بهما جلياً ..
أرسل لهما
نظرة بها كل
معاني الغضب
واللوم
والمعاناة ،
وكان في نفسه
مزيجٌ عجيب ،
بل تناقض مؤلم
فقد كان يعرف
أنهما سبب
شقائه، مع
أنهما أقرب
حبيبين له ..
استدعاهما
الضابط بعد أن
تحرى عن علي
وعرف أهله .
- تقدم يا
علي.. هل هذين
أبويك؟
-